إنا نراك من المحسنين
يعجب المرء عندما يتأمل حال نبينا يوسف عليه السلام وهو في السجن ، إذ دخل معه فتيان .. وبعد فترة لم يحددها السياق لكن يبدو أنها قصيرة .. وثق الاثنان بيوسف واطمأنا إليه فـ ( قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) والشاهد قولهم : إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ
كيف نصل إلى هذه المرتبة ؟ يطمئن إلينا الناس ويأمنوننا على أسرارهم ويرون أنا من المحسنين ..
ليس الهدف طلب مكانة لأنفسنا أو ذواتنا ، ولكن لنستثمر هذه المكانة في الدعوة إلى الله كما فعل يوسف في نفس القصة ..
يوسف لم يكن هملاً في السجن بل كان محسنا حقاً وهو على تلك الحالة العصيبة ..
يوسف لم يكن هملاً في السجن بل كان محسنا حقاً وهو على تلك الحالة العصيبة ..
إنه التميُّز والإحسان .. إحسان الخُلُق مع الخلْق ، ومع الخالق ..
يحتاج المرء إلى أن يصلح ما بينه وبين الناس لكسبهم ونفعهم، وهذا هو البر : والبر شيء هين وجه طلق ولسان لين . .قد لايحتاج الناس أكثر من ذلك . .
لكن ثمة أخلاقيات لابد من الاهتمام بها ولعلي أشير في هذه العجالة إشارات سريعة إذ المقام مقام اختصار وتنويه فحسب .. :
- يحتاج المرء إلى الحلم حتى لايهدم في ساعة ما بناه في سنة .. ولقد أصاب العامة عندما نسبوا الغضب إلى الحمق حين قالوا : حمق فلان أي غضب ..والأناة حلية يتزين بها المؤمن . . فإذا أتم هاتين الصفتين قلنا له : ( إن فيك خصلتان يحبهما الله الحلم والأناة) ..
- ويحتاج المحسن إلى خدمة الناس والسعي على راحتهم ، وقد قال الأول :أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم لطالما استعبد الإنسان إحسان
- لاتشغل الناس بهمومك واحرص على التخفيف من همومهم ، وتذكر أن الناس يحبون من يستمع إلى مشاكلهم ويشاركهم حلها ..
- لاتخض في أسرار الناس .. ولاتفش سرا لأحد
- أحسن الاستماع وأقلل من الكلام .
- الهدية مفتاح القلوب . . خاصة إذا جاءت دون انتظار!!
الشق الثاني من الإحسان .. الإحسان مع الله :
لايليق بالمسلم أن يصلح ما بينه وبين الناس ويهمل علاقته بربه ، ومن أرضى الناس بسخط الله سخط عليه الله وأسخط عليه الناس . . ومحبة الله للعبد جالبة لمحبة الناس فإن الله إذا أحب عبداً ألقى له القبول في الأرض.
كيف تصلح علاقتك مع ربك ؟
بطاعته بامتثال الأوامر واجتناب النواهي . . بالاستقامة الجادة على دينه حتى يصبح المؤمن نوراً يضيء للناس سبيلهم ، ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور ..
السؤال المر الذي نتهرب – نحن الصالحون بله المقصرين – عن الوقوف عنده : كيف حالنا مع الله ؟ ..
الصلاة :
في آيات كثيرة جاء وصف المؤمنين أنهم ( يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً) و (كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) و(وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ، المشكلة الآن في صلاة الفجر !! والعصر أحيانا ..كيف تريد التوفيق وأنت تضيع الفرائض؟! متى تذهب للمسجد ؟ كم تمكث فيه ؟ متى تخرج ؟ في أي صف تصلي .. تكبيرة الإحرام ؟؟ السنن الرواتب ؟ الوتر تصليه ، وكم ركعة تصلي ؟ الجمعة هل تبكر إليها ؟ الخشوع والطمأنينة في الصلاة .. كم تعقل من صلاتك ؟نصفها ربعها عشرها .. هل تجاهد نفسك بالخشوع .. هل تصلي لترتاح بالصلاة أم تصليها لترتاح منها .. هل فكرت بقبول صلاتك ، ومحاسبتك عليها؟ تطمئن في الصلاة وتقضيها بين ترتيل وتسبيح تنسى نفسك وتغفل عما حولك أم تنقرها نقر الغراب ؟ نحتاج إلى وقفة محاسبة جادة .
الذكر :
كم مرة فتحت المصحف خلال شهر؟!! كم جزءاً قرأت ؟ هل تكثر من التلاوة في البيت ، أم أن بيوتنا نحن الصالحين مقابر ؟ هل تحفظ كتاب الله ؟ ألا تستطيع .. ما المانع إذن ؟ هل تجلس جلسات خاصة لتدبر القرآن (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) إننا نخشى أن تكون قلوبنا في أكنة من فهم كتاب الله ..أذكار الصباح والمساء هل تحافظ عليها ؟ هل تتدبر معانيها ؟ وبقية الأذكار ؟.. في كل حال ينبغي أن تذكر الله (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِم) .. أسئلةٌ مُرّةٌ.. إجابتها أمَرّ منها …
وأيضاً :هل تصوم في غير رمضان ؟ آخر مرة زرت المقبرة متى ؟ أقاربك هل تزورهم خصوصا الجد الجدة العمة الخالة .. هل تصدقت بصدقة فأخفيتها ، وازن بين ماتنفقه على نفسك.. سيارتك، وماتنفقه في سبيل الله ؟ والداك كيف تتعامل معهما ، هل تقبل رأسيهما كل حين ، هل تنفذ ما يلمحان إليه فضلا عما يطلبانه منك ، هل تفرح بخدمتهما أم تتأفف ، وتعتذر عن طاعتهما .؟أهلك وإخوانك وجيرانك أصدقاؤك هل تخلصهم نصحك ؟ لك قريب أو جار لايصلي .. يدخن .. يقارف المنكرات وربما يجاهر بها ، ماذا قدمت له ؟ ألا تعتقد أنك ستسأل يوم القيامة مثل هذا السؤال؟أعداء الإسلام يخططون لتدميره ، العلمانيون يحثون الخطى نحو إفساد المرأة هل أنكرت عليهم ، تصوير المرأة منكر هل قمت بما يجب عليك أنت ؟ أم أن الإنكار واجب على غيرك مستحب لك؟! هل تسلحت بسلاح العلم لتجابه به أعداءك ..كم تقرأ في اليوم وماذا تقرأ ولمن تقرأ ؟ هذا هو السلاح ..بصرك هل منعت عنه الحرام أم أن لعينك خيانة ، وسيفضحك من يعلم خائنة الأعين يوم العرض عليه . .سمعك .. لسانك ، وهل يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم .. الغيبة هل تواقعها؟ هل جاهدت نفسك عنها ؟ إن كنت تغتاب في مجالسنا فإنا نراك من الظالمين لا من المحسنين!! .. جلست في مجلس سوء من مجالسنا فذُكِر أحد في المجلس .. ماذا فعلت؟ سكت أم شاركت وكلاهما سواء ، أم أنكرت ؟قلبك هل عالجت أدواءه ؟ أأبيض نقياً أم أسود مرباداً كالكوز مجخيا لايعرف معروفا ولاينكر منكراً ، هل طهرته من الغل والحقد والحسد ، هل غلبك الشيطان بالرياء أم دحرته بالإخلاص ..
هل أنت من الذين ( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ( الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ) ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) ( قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) . . (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)أم أنت من (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) ( الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ) ( الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) . . ( أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)
إنك إذا تأملت هذه الآيات وراجعت نفسك مراجعة صادقة ، لمت نفسك على التفريط وتساءلت : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَق) . .(كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)إنها الذنوب والمعاصي التي رانت على القلوب فحرمتها لذة الطاعة ومناجاة الله والقرب منها .
وبعد هذا التطواف نقف مع هذا الحديث العظيم الذي يبين علاقة المسلم مع ربه : ( من عادى لي وليا آذنته بالحرب ، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه )ألا تحب أن تكون من أولياء الله الذين وعد الله بنصرهم (من عادى لي وليا آذنته بالحرب ) ، (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) ، (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ..
حينها فلنتساءل : هل نحن من المحسنين ؟!ولله الأمر من قبل ومن بعد ..
======
نشر في مجلة المذنب بتاريخ 23/5/1423هـ
نشر في مجلة المذنب بتاريخ 23/5/1423هـ
ليست هناك تعليقات:
أسعد بمشاركتك برأي أو سؤال