اقتضتْ سُنَّة الله الكونية أنَّ أي مؤسسة أو منظَّمة أو حركة أو دولة - لَها دَورة حياة مِثلُها مثلُ الكائن الحي، ويرى المنظِّرون لهذه السُّنة أنَّ لكل مرحلة من مراحل المنظَّمات العمرية سِمَةً بارزة تتأثَّر بِبُعدين:
الأول: القدرة على التنفيذ والإنجاز.
والآخَر: القدرة على رؤية الجديد.
حيث تَمُرُّ المنظمة بِمَراحل نُموٍّ أربع، هي:
ولكي تتجنَّب المنظمة - أو تؤخِّر - وصولَها للمرحلتين الثالثة والرابعة، تلجأ إلى تجديد الدِّماء في فريق العمل، ابتداءً من تغيير القائد، حيث تُشبه النظريةُ النموذجَ - أي: الخبرة وقوانين العمل التي يعتمد عليها القائد وفريقه للنَّجاح - بالحصان في مضمارٍ للسِّباق، وعلى المنظَّمة إذا أحسَّت أنَّ حصانها بدأ بالتُّراجع - وإن كان في مراتب متقدِّمة - أن تقفز إلى حصانٍ آخَر أسرع من حصانها، وعلى المنظَّمة أن تستفيد من خبرتها لتتجنَّب القفز في الظَّلام، كما أنَّ عليها أنْ تحْذَر مِن تغيير الأحصنة مِن أجْل أنَّها جديدة فقط.
وتؤكِّد هذه النظرية على أن تغيير المدير أو القائد بِمَثابة تغيير القلب فهو عمليَّة خطيرة، كما تؤكِّد على أهمية الدَّمج بين النُّموذج القديم والجديد، مع إجراء تعديلات على النُّموذج القديم، فواقع الحال يثبت أنَّ القديم سيبقى؛ فالسيَّارات لم تَقْضِ على الخيول، والتجارة الإلكترونيَّة لَم تُنهِ التعاملات التقليدية، وساعات العقارب ما زالت تُستخدَم، كما أنَّ العالم يشهد الآن رجوعًا للطبِّ الشعبِي[1].
والإسلام كممارسة حياتية محكوم بهذه السُّنَّة أيضًا، إلا أنَّ الله تعالى قضى أنَّه ((يَبْعث لِهذه الأمة على رأْس كل مائة سنةٍ منْ يجدد لها دينَها))[2].
لا شكَّ عندي أنَّ الصحوة الآن تعيش في مرحلة برزخيَّة بين "التمكين" و"النُّضج"، وهي في كثير من حالاتها أقرب إلى النُّضج منها إلى التمكين، فقياداتُها على اختلاف توجُّهاتِها وأعمالِها تحمل خبرة كبيرة في العمل الدَّعوي والاجتماعي، وتتولَّى زمام أغلب المؤسَّسات الاجتماعية في بلدانها، وهي ترى أنَّها اكتسحَت الساحة، وملكت زمام الجماهير، دون منافسة تُذكَر مِن التيارات التغريبيَّة، وهذه بلا شكَّ نتائج مرحلة سابقة (مرحلة التمكين)، وكان المفترض في هذه القيادات أن تتنبَّه إلى أهمية تغيير الأحصنة في نهاية هذه المرحلة، فالسَّبق في مرحلة من المراحل لا يعني استمرار التفوُّق في المراحل القادمة، فلكلِّ زمنٍ مُلابساته، ولكلِّ ميدان فرسانه.
فما الذي حَدَث؟!
مِن أعظم المكاسب التي حققتها الصحوة نَشْرُ العلم الشرعي، وبَثُّ الوعي بين العامَّة والخاصة، حيث قادت الجامعات الإسلامية والمساجد نَهْضة علمية واسعة الانتشار، وقد ساعد الدُّعاةَ والعلماءَ في أداء رسالتِهم عددٌ من الوسائل المتاحة في ذلك الحين؛ كالشَّريط والكُتَيبات والإذاعة، كما أسْهَمت الجامعات الإسلامية في نَشْر التراث الإسلامي وإخراجه بأفضل صورة من خلال الرسائل والبحوث الجامعيَّة.
ومن ملامح التمكين في هذه المرحلة تأسيس عددٍ من مراكز البحوث والدراسات العلميَّة التي أسْهَمت في تنقيح كثيرٍ من المسائل العصرية التي يَحْتاجها المجتمع.
النضج العلمي:
ومع هذه النجاحات إلاَّ أن ثَمَّة معالِمَ نُضْج بدَتْ سريعة في مسيرتنا العلميَّة منها:
الحديث عن الأحصنة الرابحة يُحدِّده أهل التخصُّص بدقَّةٍ أكثر منِّي، لكنِّي سأُشير هنا إلى مبادراتٍ موجودة في السَّاحة، وهي وإن كانت متواضعة وفي بداياتها، إلاَّ أنَّ لَها مستقبلاً واعدًا:
مراكز الدِّراسات العلميَّة: تسهم مراكز الدراسات في توصيف الواقع بشكل علمي، وإيجاد حلول لمشاكله، والمفترض أن يكون لها دَوْر فاعل في توجيه النُّخَب الاجتماعية والسياسية في كلِّ بلد؛ ولا بدَّ أن تعتمد هذه المراكز أسلوب البحث العلمي منهجًا لَها؛ لتحظى بِمصداقيَّة عالية في المجتمع.
القنوات التعليميَّة: أسهَمَت القنوات الفضائيَّة الإسلامية في نَشْر العلم في أوساط كثيرة، إلاَّ أن الحديث هنا عن جامعاتٍ تعليميَّة عالَمية، تعتمد وسائط تقنيَّة مُختلفة لِنَشْر العلم (بثًّا فضائيًّا، إنترنت، تعليمًا عن بُعْد..)، يَختار الطالبُ ما يناسبه منها، مع التأكيد على أهَمِّية اعتماد شهاداتها من جهات الاختِصاص.
التأهيل التربويُّ للأستاذ الجامعي: مشكلة أساتذة الجامعات أنَّهم يتولَّون مهامَّ التدريس دون أن يكونوا مؤهَّلين ترْبويًّا للقيام بهذا الدور، إضافة إلى أنه لا يُسمَح بتقييمهم مِن قِبَل طلابِهم، أو أي جهة أخرى، وأعتقد أنَّه من المهم إشراكُهم في برامج تربوية مكثَّفة؛ للإسهام في حلِّ هذه المشكلة.
المدارس والمعاهد والجامعات الأهليَّة: يحرص الناس في السنوات الأخيرة على أن يلتحقوا ويُلْحِقوا أبناءهم بالمدارس المتميِّزة، والدبلومات المعتمدة، ويدفعوا تكاليف الدِّراسة عن رضًا واهتمام، والتربية صِنْوُ الدَّعوة وقَسِيمُ التعليم، هذا الواقع يحتِّم علينا بناء مؤسَّسات تعليمية تربوية أهلية، ابتداءً برياض الأطفال ومدارس تحفيظ القرآن، ومرورًا بالمعاهد العليا المعتمدة والجامعات الأهلية، وبناء كلِّ ذلك على فلسفة إسلاميَّة معاصرة، تَجْمع بين المنهجيَّة الشرعية والوعي التربوي والاعتماد الرَّسْمي، فنحقِّق بذلك نشر العلم وتربية الناس ومساعدتهم في أمور دنياهم.
نسبة الطلاب والطالبات في مُجتمعاتنا قد تصل إلى 50 %، والعناية بتربية هذه الفئة يعني صِمام الأمان لمستقبلنا، ورجالات المُجتمع اليوم كانوا طلابًا بالأمس نَهلوا من معين الصَّحوة عندما كانت يافعة، ووقفوا معها في مراحل تَمْكينها، وما الأندية الصيفيَّة والمخيَّمات الدَّعوية وحلق القرآن والدُّور النِّسائية المنتشرة في كل مكان إلاَّ مظهرٌ من مظاهر التمكين الطلابي.
النُّضج الطلابي:
مرَّة أخرى أُؤكِّد على أن أهل العمل أقدر على تَحْديد الأحصنة التي يَجِب عليهم القَفْز إليها، وسأشير هنا إشاراتٍ تُساعد على فَتْح آفاق جديدة للعمل الطُّلاَّبي:
مكاتب الدَّعوة المنتشرة هنا وهناك، والجمعيَّات والهيئات الخيريَّة التي عمَّ نفعُها أرجاءَ المعمورة - شاهدٌ حيٌّ على اكتساح الصَّحوة لِمَجال العمل الدَّعوي والاجتماعيِّ، وتفاعلُ الجماهير مع توجُّهات الصحوة، وقناعة المجتمع برموزها دليلٌ على نجاحٍ كتَبَهُ التاريخ.
النُّضْج الدعوي والاجتماعي:
قبل سنواتٍ كتبْتُ مَقالاً في مجلَّة البيان بعنوان: "وسائل الدَّعوة والتأثير على الجماهير"، ألْمَحتُ فيه إلى أن زمام الجماهير انفلت من أيدينا أو يكاد، وأشرتُ إلى مجموعةٍ من الوسائل التي أمَّلْتُ أن يستفيد منها قادة العمل الخيريِّ لتدارك الْخَلل، وكتب غيري في نفس الموضوع، ومع وجود مبادرات نوعيَّة في الميدان، إلاَّ أنَّها لا تُشكِّل توجُّهًا يُنقِذ الصحوة منَ التراجع في هذا المجال.
ولِمَرحلة النُّضج التي تعيشها الصَّحوة في هذا المجال عدَّة سِمَات، أذكر منها:
تقليديَّة الوسائل والبرامج: مع أن عدد مستمعي أشرطة الكاسيت في تراجُعٍ حادٍّ، والقراءة الإلكترونية تستحوذ على اهتمام شريحةٍ تزداد يومًا بعد يوم، ومع عزوف الكثير عن حضور المحاضرات في المساجد، على الرغم من ذلك كلِّه، فما زالت مكاتب الدعوة إلى الآن توزِّع أشرطة الكاسيت، والنشرات والكتيبات، وتقيم المُحاضرات التي تعلن عنها بِمُلصقات ورقية في المساجد، دون أن تتساءل عن فاعليَّة وأثر هذه الوسائل على المستهدفين، وليست الجهات الخيرية بأحسنَ حالاً من مكاتب الدعوة؛ فأساليبها وبرامجها توقَّفَت عن النُّموِّ منذ مدَّة، وكان بإمكانها أن تقود الشباب والفتيات، وتستثمر طاقاتهم في العمل التطوُّعي من خلال المجتمعات الافتراضية مثلاً، إلاَّ أن أغلب مؤسَّساتنا الاجتماعية ليس لها وجود يُذْكَر في الشبكات والوسائط الاجتماعية "Social media"؛ مثل: الفيس بوك، والتويتر، واليوتيوب، والنت لوق، وغيرها، أو بِمَعنى آخر: هي في واد، والمجتمع في وادٍ آخر!
الاهتمام بالكم على حساب الكَيْف: في تقاريرها السنوية تَحْرص مؤسَّساتنا على التَّكاثر بالأرقام، فمكتب الدعوة الفلاني أقام كذا مُحاضرة، وأسلم من خلاله كذا شخصًا، ووزَّع كذا كتابًا، والجمعية الفلانية تكفل مئات الأيتام، ومئات الأُسَر الفقيرة، وتفطِّر آلاف الصائمين، فالأرقام تمنحنا شعورًا زائفًا بالقوة، وتساعدنا على البقاء فترة أطول، متناسين أنَّ مستوى وعي المتبرع قد ازداد وسقف طموحاته قد ارتفع، وإذا حدّثت الدعاة عن أثر المحاضرات على المجتمع، ونوعية الفئة المستهدفة وقياس أثر تلك الوسائل عليها لم تجد إجابات شافية، وإن طلبت منهم التركيز على تربية الجاليات العربية والأجنبية لنصنع منهم مسلمين اسمًا ومضمونًا لم تجد الحماس الكافي لتنفيذ هذه الفكرة، ولا لأي فكرة نوعية تركز على الكيف أكثر من الكم، والجمعيات الخيرية هي الأخرى تفتقر برامجها إلى البُعد التربوي والإصلاحي، وتركز فقط على الجانب الإغاثي، فإذا اقترحت مثلاً: "الرعاية الشاملة لليتيم"، بدلاً من "كفالة اليتيم"؛ بهدف تعويض اليتيم عن فقد والده من جميع الجوانب التربوية والاجتماعية والمالية؛ اعترضوا عليك بأن هذا يضيف عبئًا ماليًّا على المشروع، ويستلزم كفاءات تربوية واجتماعية تضاعف قيمة الكفالة أضعافًا مضاعفة، وإذا اقترحت استثمار مشاريع إفطار الصائمين بالتوعية والتثقيف للمستهدفين اعتذروا بصعوبة إدارة المشروع، أو نقص الكوادر لتحقيق هذا الهدف!
الضعف الإداري: تعاني أغلب مؤسساتنا الدعوية والاجتماعية خللاً إداريًّا يشمل: افتقارها للهياكل والأنظمة والخطط الفاعلة، وضعف الثقافة الإدارية لدى قياداتها، فضلاً عن عامليها، المشكلة الحقيقة تكمن في عدم قناعة تلك القيادات بأهمية إحداث نقلة نوعية لمؤسساتهم تشمل الهياكل والنظم كما تشمل الأفراد، وإصرارهم أن يديروا مؤسساتهم بأساليبهم القديمة والتي تركز على المنتج أكثر من تركيزها على القدرات، والثمنُ: أرقامٌ خادعة ومؤسساتٌ مترهلة، تحيى بوجود رجل وتموت بموته.
الضَّعف الإعلاميُّ: مشكلتنا مع الإعلام تَكْمُن في عدم قناعتنا بِجَدوى الأموال التي تُصرَف من أجله بسبب "النقد والنسيئة"، فمهما حاولْتَ إطالة نَفَس أحدِهم في حملةٍ إعلامية فإنَّ صبره سينفذ، فهو لا يحتمل أن يرى الأموال تصرف دون أن يلمس لذلك أثرًا قريبًا واضحًا، وهم يحتجُّون غالبًا بعدم وجود أموال كافية للجانب الإعلامي، متناسين أن الإعلام هو الذي يجلب الأموال!
ضعف التأثير في الجماهير: علاقة الصَّحوة بالجماهير لا تخرج عن الأطُر التالية:
أحصنة رابحة:
أهل مكَّة أدرى بشِعابِها، ولكلِّ مؤسَّسة فُرَص متاحة أمامها، ولكلِّ بلدٍ ظروفُه وأحواله، والحديث عن الوسائل الجديدة واسع ومتجدِّد، لكنِّي هنا سأُشير إلى مَجالاتٍ أرى أهمية العناية بِها:
مراكز الدِّراسات الفكريَّة والسِّياسية والاجتماعيَّة: لِمراكز الدراسات أثَرُها الواضح في توجيه النُّخَب، والطَّبقة المثقَّفة، والاهتمام بِهذه المراكز سيساعد الصَّحوة في الانتقال من الخطاب العاطفي المجرَّد إلى الخطاب العلميِّ المنطقي.
مؤسَّسات الإنتاج الإعلامي: الإعلام والدَّعوة صِنْوان لا يفترقان، وقد لاحَظْنا في الآوِنَة الأخيرة توجُّهَ الكثير إلى تأسيس القنوات الفضائيَّة، وهي تجربة جديدةٌ في العمل الدَّعوي والاجتماعي، والزَّمن وَحْدَه كافٍ لِصَقْل هذه التَّجربة وتصفيتها.. الأهَمُّ من وجهة نظري هو في تأسيس مؤسسات الإنتاج الإعلامي التي تخدم القنوات الفضائيَّة بشكل عامٍّ والقنوات الإسلاميَّة بشكل خاصٍّ، فتأسيس القناة الفضائيَّة الإسلامية ليس نهاية الطَّريق، بل هو الخطوة الأولى لاستقطاب الجماهير التي تقارن إنتاج قنواتنا الفضائيَّة بالقنوات الأخرى الموجودة في الساحة الإعلامية.
التطوير الإداريُّ: التدريب ليس الحلَّ السِّحري لكل مشكلاتنا الإداريَّة، لكنه وسيلة فاعلة لتغيير قناعات القيادات، ولتنمية مهارات الأفراد، والأهمُّ منه هو تكوين الثقافة الإداريَّة على مستوى الأفراد والقيادات، وتَهْيئةُ بيئة العمل الصِّحية من خلال اللوائح والنُّظُم الفاعلة في الميدان، لا المرصوصة في الأدراج.
العالم الافتراضي: الشبكة العنكبوتيَّة أوجدتْ تعريفًا آخر للحياة الاجتماعيَّة؛ حيث جَمعت العالَم في آلةٍ صغيرة بحجم كفِّ اليد يحملها الشخص في جيبه، وأوجدت داخل هذا العالَم الافتراضيِّ الجامعات والمكتبات، والأسواقَ والشبكات الاجتماعيَّة المتنوِّعة، وآليَّات التفاعل مع هذا العالم في تطوُّر مستمرٍّ، ونحن - شِئْنا أم أبَيْنا - لا بدَّ أن نتعامل مع المجتمع على ضوء هذه التغييرات.
التقنية: وسائل الاتِّصال والتقنية تتطوَّر بشكل يُصعِّب على العاملين متابعتَها، وإدراك كيفيَّة استثمارها، والحلُّ من وجهة نظري يكمُن في تغيير فلسفة العمل لدى مؤسَّساتنا الخيرية بحيث تدخل التقنية كجزءٍ أساس في خطط وإستراتيجيات وهياكل هذه المؤسَّسات، حينَها سنُلاحظ إقامة المؤتَمرات واللِّقاءات، والمسابقات، والمنتديات، والمقالات، والدِّراسات التي تبحث مدى الاستفادة من وسائل الاتِّصال والتقنية، وستدرج الأقسام التقنية في هياكل مؤسَّساتنا، وستستقطب الكفاءات لاستثمارها في هذا المَجال، إذا نَجَحْنا في هذه النقلة فسيأتي اليوم الذي نستبدل فيه التسجيلات الإسلاميَّة براديو الستالايت، وتلفازَ الإنترنت، ونستبدل التوجيهات والإعلانات الورقيَّة في المساجد بشاشاتِ LCD مُحَوسبةً تديرها مكاتب الدَّعوة بشكل مركزي، وسنُرجِع دورَ المسجد في التأثير على أهل الحي، وستكون للجهات الخيريَّة شبكة من المتطوِّعين في شتَّى الْمجالات والتخصُّصات، والتي تخدم المجتمع في أيِّ مكان كانتْ.
الكفاءة الإستراتيجيَّة: إذا كثُر الباعة، وتنوَّعَت البضاعة سيلجأ الجمهور إلى الاختيار، وهنا يبقى الأقوى، والقوة لا ترتبط بالحجم على كلِّ حال - وإن أريدَ لَها ذلك - ونظرًا إلى كبر التحدِّي وكثرة المعوِّقات، وقلَّة الموارد كان لا بدَّ للعاملين من التركيز على فئاتٍ ومؤسَّسات وبرامج محدَّدة، تراهن عليها في المرحلة القادمة.
وفي نظري فإنَّ أهمَّ فئة يمكن الاستثمار فيها هي: النِّساء، والشَّباب "ذكورًا وإناثًا"، وأهمُّ مَجال يُمكن العمل من خلاله في المرحلة القادمة: الإعلام والترويح والسِّياحة، وأهم مُحتوى يجب تقديمه هو: الوعظ والرَّقائق - وهذا بطبيعة الحال لا يعني إهْمالَ الفئات أو المجالات أو المواضيع الأخرى - أما المؤسَّسات فيرتبط اختيارها بِمَدى قدرتها على تحقيق أهدافنا..
ثُمَّ إن اهتمامنا بِهذه الفئات والمجالات لا يحقِّق لنا الكفاءة الإستراتيجيَّة إلا إذا تَميَّزْنا ببرامِجنا وما نقدِّمه للجمهور، ونجحنا في تقديم مادَّةٍ يحتاجها الجمهور ويبحثون عنها، ولا يجدونها عند غيرنا.
ويبقى السؤال المهم:
والذي أرجو إن شاء الله أنَّ الصحوة - وإن غفَتْ قليلاً - على أبواب صحوة جديدة ستعيدها يافعة، وسيعاني فرسانُها الجدد معوِّقات الانطلاق؛ مِن ضعف الموارد الماليَّة والبشريَّة، وكثرة التحدِّيات والمعوقات، ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 21].
=========
*نشر المقال في مجلة البيان وفي موقع الألوكة.
الإحالات:
[1] الخزامي، عبدالحكيم أحمد (2000م)، "أسُس بناء المنظَّمة الذكية المعاصرة"، بيروت: دار الكتب العلمية.
[2] أخرجه أبو داود في "سننه" (4291) من حديث أبي هريرة.
[3] كنتُ قد كتبتُ مقالاً في هذا الموضوع نُشِر في مجلَّة البيان بعنوان: "نحو تدريس فعَّال.. نظرة إلى معاهدنا العلمية"، فليُراجَع هناك.. وهو منشور في مدونة الباقي.
[4] يراجع سلسلة مقالات : الدوائر الأربع للعمل التطوُّعي، في مدوَّنة الباقي الإلكترونية.
والآخَر: القدرة على رؤية الجديد.
حيث تَمُرُّ المنظمة بِمَراحل نُموٍّ أربع، هي:
- اليفاع: حيث تكون قُدْرة الفريق على الإبداع ورؤية الجديد قويَّة، بينما قدرته على تنفيذ المهامِّ والإنجاز ضعيفة؛ بسبب حداثة الكوادِر البشريَّة وضعف خبرتِها، وربَّما ضعف الموارد الماليَّة.
- التمكُّن: في هذه المرحلة تكون قدرة الفريق على الإبداع عالية وخبرتُه كبيرة، فيكون في أعلى حالاته وأفضلِها.
- النُّضْج: في هذه المرحلة يعتمد الفريق على خبراته المتراكمة، التي تَحْجبه عن الجديد، وتُضعِف قدرتَه على الإبداع، فيصبح أسيرَ نماذجِه الخاصة.
- الزوال: الخِبْرات التي كان يحملها الفريق لمدَّة طويلة صارتْ قديمة وغير مؤثِّرة، والفريق لا يمتلك القدرة على التجديد، وبالتالي يتجاوزه الزمن.
ولكي تتجنَّب المنظمة - أو تؤخِّر - وصولَها للمرحلتين الثالثة والرابعة، تلجأ إلى تجديد الدِّماء في فريق العمل، ابتداءً من تغيير القائد، حيث تُشبه النظريةُ النموذجَ - أي: الخبرة وقوانين العمل التي يعتمد عليها القائد وفريقه للنَّجاح - بالحصان في مضمارٍ للسِّباق، وعلى المنظَّمة إذا أحسَّت أنَّ حصانها بدأ بالتُّراجع - وإن كان في مراتب متقدِّمة - أن تقفز إلى حصانٍ آخَر أسرع من حصانها، وعلى المنظَّمة أن تستفيد من خبرتها لتتجنَّب القفز في الظَّلام، كما أنَّ عليها أنْ تحْذَر مِن تغيير الأحصنة مِن أجْل أنَّها جديدة فقط.
وتؤكِّد هذه النظرية على أن تغيير المدير أو القائد بِمَثابة تغيير القلب فهو عمليَّة خطيرة، كما تؤكِّد على أهمية الدَّمج بين النُّموذج القديم والجديد، مع إجراء تعديلات على النُّموذج القديم، فواقع الحال يثبت أنَّ القديم سيبقى؛ فالسيَّارات لم تَقْضِ على الخيول، والتجارة الإلكترونيَّة لَم تُنهِ التعاملات التقليدية، وساعات العقارب ما زالت تُستخدَم، كما أنَّ العالم يشهد الآن رجوعًا للطبِّ الشعبِي[1].
والإسلام كممارسة حياتية محكوم بهذه السُّنَّة أيضًا، إلا أنَّ الله تعالى قضى أنَّه ((يَبْعث لِهذه الأمة على رأْس كل مائة سنةٍ منْ يجدد لها دينَها))[2].
الصحوة بين التمكين والنُّضج:
بعيدًا عن الخلاف حول مفهوم الصَّحوة وتاريخها، أودُّ أن أقف وقفة تأمُّل مع مؤسَّسات وبرامج الصَّحوة التي عايَشْتُها وقرأتُ عنها في مُحيطي الإقليميِّ، وعلى الْمُقيمين خارجَه مراعاة فارق التوقيت!لا شكَّ عندي أنَّ الصحوة الآن تعيش في مرحلة برزخيَّة بين "التمكين" و"النُّضج"، وهي في كثير من حالاتها أقرب إلى النُّضج منها إلى التمكين، فقياداتُها على اختلاف توجُّهاتِها وأعمالِها تحمل خبرة كبيرة في العمل الدَّعوي والاجتماعي، وتتولَّى زمام أغلب المؤسَّسات الاجتماعية في بلدانها، وهي ترى أنَّها اكتسحَت الساحة، وملكت زمام الجماهير، دون منافسة تُذكَر مِن التيارات التغريبيَّة، وهذه بلا شكَّ نتائج مرحلة سابقة (مرحلة التمكين)، وكان المفترض في هذه القيادات أن تتنبَّه إلى أهمية تغيير الأحصنة في نهاية هذه المرحلة، فالسَّبق في مرحلة من المراحل لا يعني استمرار التفوُّق في المراحل القادمة، فلكلِّ زمنٍ مُلابساته، ولكلِّ ميدان فرسانه.
فما الذي حَدَث؟!
- هل قفزت القيادات إلى الأحصنة المُجاورة والتي تعدو بسرعة وإن كانت تأتي في مرحلة متأخِّرة؟ أم نامت قريرة العَيْن؟!
- الخبرات التي تحملها فِرَقُ العمل، ما تأثيرها في الواقع؟ وهل هي خبرات متراكمة، أم تَجارِب مكرَّرة؟!
- ما هي قدرة فِرَق العمل على افتتاح ميادين جديدة، وابتكار وسائل حديثة؟ أم هم أسارى لنماذجهم القديمة؟!
- أعداد المستفيدين من برامج الصحوة - وإن كانت كثيرة - هل هي في ازدياد أم في تناقُص؟!
- المؤسَّسات التي تديرها الصَّحوة منذ زمن هل هي الأنسب للمرحلة القادمة، وإن كانت مناسبة فهل تمتلك مقوِّمات البقاء في ظلِّ المعطيات الحديثة؟
- هل يدرك القادة أنَّ أحصنتهم - وإن كانت في المقدِّمة - تضعف وتتراجع؟
- وإذا كان قادة الأمس غير قادرين على مواكبة الحاضر وإدراك معطياته ومتابعة مستجدَّاته، فهل أتاحوا المَجال لقادة اليوم؟ وهل أسْهَموا في صناعة قادة المستقبل؟!
أولاً: المجال العلمي
التمكين العلمي:مِن أعظم المكاسب التي حققتها الصحوة نَشْرُ العلم الشرعي، وبَثُّ الوعي بين العامَّة والخاصة، حيث قادت الجامعات الإسلامية والمساجد نَهْضة علمية واسعة الانتشار، وقد ساعد الدُّعاةَ والعلماءَ في أداء رسالتِهم عددٌ من الوسائل المتاحة في ذلك الحين؛ كالشَّريط والكُتَيبات والإذاعة، كما أسْهَمت الجامعات الإسلامية في نَشْر التراث الإسلامي وإخراجه بأفضل صورة من خلال الرسائل والبحوث الجامعيَّة.
ومن ملامح التمكين في هذه المرحلة تأسيس عددٍ من مراكز البحوث والدراسات العلميَّة التي أسْهَمت في تنقيح كثيرٍ من المسائل العصرية التي يَحْتاجها المجتمع.
النضج العلمي:
ومع هذه النجاحات إلاَّ أن ثَمَّة معالِمَ نُضْج بدَتْ سريعة في مسيرتنا العلميَّة منها:
- اعتماد الجامعات على أسلوب التلقين، وضَعْف دور المكتبة الجامعيَّة، خاصة لطلاب البكالوريوس[3].
- يُعاب على جامعاتنا أنَّها تُدرِّس كتبًا أُلِّفت قبل عقد أو عقدين من الزَّمن، أمَّا في التخصُّصات الشرعية فالأمر مُختلف تَمامًا؛ لأنَّ أغلب الكتب التي تدرَّسُ للطلاب كُتِبت قبل قرون طويلة! ولو قدَّر الله لابن تيميَّة وابن حجر والطحاوي والشوكاني أن يعودوا لِزَماننا لأجمعوا أنَّ كتبَهم لا تُناسب زمانَنا، ولشَرعوا من فورهم في تأليف كتب تناسب العصر والطُّلاب.. أُدركُ تمامًا أنَّ كلام السَّلَف أحكم من كلام المعاصرين، وأنَّ طالب العلم لا بدَّ أن يطَّلع على كتب الأوائل، وأنَّ فنونًا كأصول الفقه وأصول الحديث أشبعَها الماضون دراسةً وتأليفًا، لكن ما الذي يَمْنعنا أن نُزاوِجَ بين القديم والجديد؟! ثُمَّ ما الذي يعجزنا عن إكمال مسيرة سلَفِنا الأوائل؟! ما الذي دفع الشوكانِيَّ إلى تأليف فتح القدير: وقد سُبق بـ"تفسير القرآن العظيم"؟ ولِم لم يكتف ابن كثير بتدريس "جامع البيان"؟ ولو قُدِّر للشيخ عبدالرحمن الدوسريِّ أن يعيش لأجَابنا: "إنَّ لكل زمان كتابًا"، هذا في التفسير، وقُلْ مثل ذلك في سائر الفنون.
- لو سألتَ أحدَ خرِّيجي أقسام العقيدة في جامعاتنا عن المعتزلة، لأَخْبَرك أنَّهم ينفون الصِّفات، ويقولون بِخَلق القرآن... لكنَّ القليل منهم سيخبرك أنَّ معتزلة هذا العصر في الأغلب لا يتكلَّمون في الصفات، لكن يجمعهم مع أجدادهم بُغْضُهم للنصِّ، وتقديسهم للعقل.
- خلال دراستي الشَّرعية في إحدى جامعاتنا الإسلامية العريقة درسْتُ وبتعمُّق الفِرَقَ والمذاهب التي كانت موجودة قبل سبعة قرون، لكنِّي لم أتعرَّف على آراء أهل الأهواء في هذا العصر، والردِّ عليها إلا من خلال كتبٍ لا تُدرَّس في الجامعات الإسلامية، وثَمَّة محاولات وجهود فرديَّة، لكنِّي أتكلَّم عن دورٍ ينبغي أن تقوم به الجامعات ومراكز الدِّراسات التابعة لها.
- الدِّراسات العليا فُرصة لتخريج المتخصِّصين في العلوم الشرعية، ومَجالٌ رَحْب لتقديم البحوث التي يَحْتاجها الواقع المعاصر، وكان المتوقَّع من جامعاتنا الإسلاميَّة أن تستثمر إقبال الدَّارسين، وحرْصَهم على الدراسات العليا لتغطية هذا المَجال.
الحديث عن الأحصنة الرابحة يُحدِّده أهل التخصُّص بدقَّةٍ أكثر منِّي، لكنِّي سأُشير هنا إلى مبادراتٍ موجودة في السَّاحة، وهي وإن كانت متواضعة وفي بداياتها، إلاَّ أنَّ لَها مستقبلاً واعدًا:
مراكز الدِّراسات العلميَّة: تسهم مراكز الدراسات في توصيف الواقع بشكل علمي، وإيجاد حلول لمشاكله، والمفترض أن يكون لها دَوْر فاعل في توجيه النُّخَب الاجتماعية والسياسية في كلِّ بلد؛ ولا بدَّ أن تعتمد هذه المراكز أسلوب البحث العلمي منهجًا لَها؛ لتحظى بِمصداقيَّة عالية في المجتمع.
القنوات التعليميَّة: أسهَمَت القنوات الفضائيَّة الإسلامية في نَشْر العلم في أوساط كثيرة، إلاَّ أن الحديث هنا عن جامعاتٍ تعليميَّة عالَمية، تعتمد وسائط تقنيَّة مُختلفة لِنَشْر العلم (بثًّا فضائيًّا، إنترنت، تعليمًا عن بُعْد..)، يَختار الطالبُ ما يناسبه منها، مع التأكيد على أهَمِّية اعتماد شهاداتها من جهات الاختِصاص.
التأهيل التربويُّ للأستاذ الجامعي: مشكلة أساتذة الجامعات أنَّهم يتولَّون مهامَّ التدريس دون أن يكونوا مؤهَّلين ترْبويًّا للقيام بهذا الدور، إضافة إلى أنه لا يُسمَح بتقييمهم مِن قِبَل طلابِهم، أو أي جهة أخرى، وأعتقد أنَّه من المهم إشراكُهم في برامج تربوية مكثَّفة؛ للإسهام في حلِّ هذه المشكلة.
المدارس والمعاهد والجامعات الأهليَّة: يحرص الناس في السنوات الأخيرة على أن يلتحقوا ويُلْحِقوا أبناءهم بالمدارس المتميِّزة، والدبلومات المعتمدة، ويدفعوا تكاليف الدِّراسة عن رضًا واهتمام، والتربية صِنْوُ الدَّعوة وقَسِيمُ التعليم، هذا الواقع يحتِّم علينا بناء مؤسَّسات تعليمية تربوية أهلية، ابتداءً برياض الأطفال ومدارس تحفيظ القرآن، ومرورًا بالمعاهد العليا المعتمدة والجامعات الأهلية، وبناء كلِّ ذلك على فلسفة إسلاميَّة معاصرة، تَجْمع بين المنهجيَّة الشرعية والوعي التربوي والاعتماد الرَّسْمي، فنحقِّق بذلك نشر العلم وتربية الناس ومساعدتهم في أمور دنياهم.
ثانيًا: المجال الطلابي
التمكين الطلابي:نسبة الطلاب والطالبات في مُجتمعاتنا قد تصل إلى 50 %، والعناية بتربية هذه الفئة يعني صِمام الأمان لمستقبلنا، ورجالات المُجتمع اليوم كانوا طلابًا بالأمس نَهلوا من معين الصَّحوة عندما كانت يافعة، ووقفوا معها في مراحل تَمْكينها، وما الأندية الصيفيَّة والمخيَّمات الدَّعوية وحلق القرآن والدُّور النِّسائية المنتشرة في كل مكان إلاَّ مظهرٌ من مظاهر التمكين الطلابي.
النُّضج الطلابي:
- عندما نشرْتُ كتابي "نادي الهوايات الصيفي" قبل ستِّ سنوات لم أجْرُؤ حينها أن أقول: "إنَّ الأندية الصيفية التقليدية خَدَمت مشكورة لأكثر من عشرين سنة، وحُقَّ لَها أن تُكرَّم وتُحال للتقاعد؛ لأن الزَّمان قد تَجاوزها"، ومع أنَّ الكثير من قيادات العمل الطُّلاَّبي كان يشتكي من ضعف الإقبال على الأندية الصيفية، إلاَّ أن القليل منهم قرَّر الانتقال إلى الفكرة الجديدة، ولن أُكرِّر غلطتي! فأنا أُعلِن الآن أنَّ "نادي الهوايات الصيفيَّ" أضحى فكرةً قديمة تَجاوزَها الزَّمَنُ بسرعة، وثَمَّة تجربة جديدة جديرة بالاهتمام، أُسَمِّيها "النادي الصيفي المفتوح"، فهل سيتمكَّن قيادات العمل الطلابِيِّ من التخلُّص من نماذجهم القديمة، والقفز إلى أحصنة جديدة؟!
- المَحاضن التَّربوية المنتشرة هنا وهناك لا تخرج عن إطارٍ عامٍّ بنَتْه الصَّحوة خلال سنواتِ تَمْكينها، وأضحى الْمسُّ بِهذا الإطار أو الدعوة إلى فَتْح آفاق جديدة للعمل الطُّلاَّبِي - أمرًا مرفوضًا (عمَليًّا) من قيادات تلك المَحاضن.
- الكثير يشكو ضعفًا في مستوى المُرَبِّين والدُّعاة، وقِلَّةً في أعدادهم، ويُلقِي باللائمة على الزَّمن، والتَّرَف، والتطوُّرات الاجتماعيَّة، ومع إيماني بأنَّ هذه المشكلة معقَّدة، إلاَّ أنني على يقينٍ أيضًا أنَّ ما تعانيه المَحاضن التربويَّة خاصَّة ومؤسَّساتنا الدعوية والاجتماعية عامَّة، من أزمةٍ في العاملين - سببه الرئيس جُمود العمل على مُمارسات تعدَّاها الزمن، وأساليب أمسَتْ لا تستهوي الطلاب، ولا ترقى إلى مستوى تطلُّعاتِهم؛ مِمَّا أدَّى إلى ضعف الإقبال، وتسرُّب المتميِّزين، "ودائرة العاملين تتغذَّى من دائرة المستفيدين[4]".
مرَّة أخرى أُؤكِّد على أن أهل العمل أقدر على تَحْديد الأحصنة التي يَجِب عليهم القَفْز إليها، وسأشير هنا إشاراتٍ تُساعد على فَتْح آفاق جديدة للعمل الطُّلاَّبي:
- الانفتاح الحضاريُّ والتغريب الذي يَمُرُّ به المُجتمع يُحتِّمان على المربِّين أن ينظروا إلى العمل مِن خلال بُعدين منفصلَيْن: الكمّ، والكيف؛ فالكَمّ يوجِّهنا للبرامج الجماهيرية الواسعة، ونجاحنا فيها مرهونٌ بعدد الجماهير الطلابيَّة التي نُخاطبها في مجتمعنا، والكيف يوجِّهنا للبرامج التربوية المتخصِّصة، ونجاحنا فيها يتوقَّف على المستوى التربوي الذي يصله المتربِّي، وفي هذا الباب ينبغي على العاملين التفريق الواضح في هدف كلِّ مَنْشط هل هو الكم أم الكيف؟ وعدم الخلْط بين الاتجاهَيْن.
- إذا فكَّرنا خارج الصُّندوق سنجد آفاقًا واسِعة للعمل الطُّلابي، عدا تلك التي اعتدنا عليها، وإذا نظرنا إلى مَحاضننا الحالية على أنَّها وسائل لا ثوابت، لن نجد غضاضة في استبدالِها، أو تعديل فلسفة العمل فيها.
- إذا كان المربُّون في مرحلة ماضية يبذلون أوقاتهم وجهودهم مُحتسبين الأجر عند الله، دون أن ينتظروا مالاً أو ثناء؛ فإنَّ واقع الحال تغيَّر، وجدير بنا أن نُفكِّر بتهيئة الأجْواء لمسميات وظيفيَّة جديدة: "مُرَبٍّ"، "أخصائيٌّ اجتماعي"، "مدير أنشطة".. إلخ، ونَطْرح لَها دبلومات تأهيليَّة معتمدة، مبنيَّة على مناهج علمية تطبيقيَّة مدروسة، ونتبنَّى مؤسسات تربويَّة واجتماعيَّة تستقطب هذه الفئات وتوظِّفها، وتشرف على أدائها وتطوُّرها.
ثالثًا: المَجال الدَّعويُّ والاجتماعي
التمكين الدَّعوي والاجتماعي:مكاتب الدَّعوة المنتشرة هنا وهناك، والجمعيَّات والهيئات الخيريَّة التي عمَّ نفعُها أرجاءَ المعمورة - شاهدٌ حيٌّ على اكتساح الصَّحوة لِمَجال العمل الدَّعوي والاجتماعيِّ، وتفاعلُ الجماهير مع توجُّهات الصحوة، وقناعة المجتمع برموزها دليلٌ على نجاحٍ كتَبَهُ التاريخ.
النُّضْج الدعوي والاجتماعي:
قبل سنواتٍ كتبْتُ مَقالاً في مجلَّة البيان بعنوان: "وسائل الدَّعوة والتأثير على الجماهير"، ألْمَحتُ فيه إلى أن زمام الجماهير انفلت من أيدينا أو يكاد، وأشرتُ إلى مجموعةٍ من الوسائل التي أمَّلْتُ أن يستفيد منها قادة العمل الخيريِّ لتدارك الْخَلل، وكتب غيري في نفس الموضوع، ومع وجود مبادرات نوعيَّة في الميدان، إلاَّ أنَّها لا تُشكِّل توجُّهًا يُنقِذ الصحوة منَ التراجع في هذا المجال.
ولِمَرحلة النُّضج التي تعيشها الصَّحوة في هذا المجال عدَّة سِمَات، أذكر منها:
تقليديَّة الوسائل والبرامج: مع أن عدد مستمعي أشرطة الكاسيت في تراجُعٍ حادٍّ، والقراءة الإلكترونية تستحوذ على اهتمام شريحةٍ تزداد يومًا بعد يوم، ومع عزوف الكثير عن حضور المحاضرات في المساجد، على الرغم من ذلك كلِّه، فما زالت مكاتب الدعوة إلى الآن توزِّع أشرطة الكاسيت، والنشرات والكتيبات، وتقيم المُحاضرات التي تعلن عنها بِمُلصقات ورقية في المساجد، دون أن تتساءل عن فاعليَّة وأثر هذه الوسائل على المستهدفين، وليست الجهات الخيرية بأحسنَ حالاً من مكاتب الدعوة؛ فأساليبها وبرامجها توقَّفَت عن النُّموِّ منذ مدَّة، وكان بإمكانها أن تقود الشباب والفتيات، وتستثمر طاقاتهم في العمل التطوُّعي من خلال المجتمعات الافتراضية مثلاً، إلاَّ أن أغلب مؤسَّساتنا الاجتماعية ليس لها وجود يُذْكَر في الشبكات والوسائط الاجتماعية "Social media"؛ مثل: الفيس بوك، والتويتر، واليوتيوب، والنت لوق، وغيرها، أو بِمَعنى آخر: هي في واد، والمجتمع في وادٍ آخر!
الاهتمام بالكم على حساب الكَيْف: في تقاريرها السنوية تَحْرص مؤسَّساتنا على التَّكاثر بالأرقام، فمكتب الدعوة الفلاني أقام كذا مُحاضرة، وأسلم من خلاله كذا شخصًا، ووزَّع كذا كتابًا، والجمعية الفلانية تكفل مئات الأيتام، ومئات الأُسَر الفقيرة، وتفطِّر آلاف الصائمين، فالأرقام تمنحنا شعورًا زائفًا بالقوة، وتساعدنا على البقاء فترة أطول، متناسين أنَّ مستوى وعي المتبرع قد ازداد وسقف طموحاته قد ارتفع، وإذا حدّثت الدعاة عن أثر المحاضرات على المجتمع، ونوعية الفئة المستهدفة وقياس أثر تلك الوسائل عليها لم تجد إجابات شافية، وإن طلبت منهم التركيز على تربية الجاليات العربية والأجنبية لنصنع منهم مسلمين اسمًا ومضمونًا لم تجد الحماس الكافي لتنفيذ هذه الفكرة، ولا لأي فكرة نوعية تركز على الكيف أكثر من الكم، والجمعيات الخيرية هي الأخرى تفتقر برامجها إلى البُعد التربوي والإصلاحي، وتركز فقط على الجانب الإغاثي، فإذا اقترحت مثلاً: "الرعاية الشاملة لليتيم"، بدلاً من "كفالة اليتيم"؛ بهدف تعويض اليتيم عن فقد والده من جميع الجوانب التربوية والاجتماعية والمالية؛ اعترضوا عليك بأن هذا يضيف عبئًا ماليًّا على المشروع، ويستلزم كفاءات تربوية واجتماعية تضاعف قيمة الكفالة أضعافًا مضاعفة، وإذا اقترحت استثمار مشاريع إفطار الصائمين بالتوعية والتثقيف للمستهدفين اعتذروا بصعوبة إدارة المشروع، أو نقص الكوادر لتحقيق هذا الهدف!
الضعف الإداري: تعاني أغلب مؤسساتنا الدعوية والاجتماعية خللاً إداريًّا يشمل: افتقارها للهياكل والأنظمة والخطط الفاعلة، وضعف الثقافة الإدارية لدى قياداتها، فضلاً عن عامليها، المشكلة الحقيقة تكمن في عدم قناعة تلك القيادات بأهمية إحداث نقلة نوعية لمؤسساتهم تشمل الهياكل والنظم كما تشمل الأفراد، وإصرارهم أن يديروا مؤسساتهم بأساليبهم القديمة والتي تركز على المنتج أكثر من تركيزها على القدرات، والثمنُ: أرقامٌ خادعة ومؤسساتٌ مترهلة، تحيى بوجود رجل وتموت بموته.
الضَّعف الإعلاميُّ: مشكلتنا مع الإعلام تَكْمُن في عدم قناعتنا بِجَدوى الأموال التي تُصرَف من أجله بسبب "النقد والنسيئة"، فمهما حاولْتَ إطالة نَفَس أحدِهم في حملةٍ إعلامية فإنَّ صبره سينفذ، فهو لا يحتمل أن يرى الأموال تصرف دون أن يلمس لذلك أثرًا قريبًا واضحًا، وهم يحتجُّون غالبًا بعدم وجود أموال كافية للجانب الإعلامي، متناسين أن الإعلام هو الذي يجلب الأموال!
ضعف التأثير في الجماهير: علاقة الصَّحوة بالجماهير لا تخرج عن الأطُر التالية:
- الانتماء "تبَنِّي أفكار الصحوة والدفاع عن مؤسَّساتِها ورموزها"
- الاستفادة "التأثُّر بآراء الصَّحوة واتِّجاهاتها الفكريَّة"
- المَحبَّة "التعاطف مع قضايا الصَّحوة دون تبَنِّي أفكارها"
- الانفصال "البعد عن الصَّحوة عاطفيًّا وعمَليًّا".
أحصنة رابحة:
أهل مكَّة أدرى بشِعابِها، ولكلِّ مؤسَّسة فُرَص متاحة أمامها، ولكلِّ بلدٍ ظروفُه وأحواله، والحديث عن الوسائل الجديدة واسع ومتجدِّد، لكنِّي هنا سأُشير إلى مَجالاتٍ أرى أهمية العناية بِها:
مراكز الدِّراسات الفكريَّة والسِّياسية والاجتماعيَّة: لِمراكز الدراسات أثَرُها الواضح في توجيه النُّخَب، والطَّبقة المثقَّفة، والاهتمام بِهذه المراكز سيساعد الصَّحوة في الانتقال من الخطاب العاطفي المجرَّد إلى الخطاب العلميِّ المنطقي.
مؤسَّسات الإنتاج الإعلامي: الإعلام والدَّعوة صِنْوان لا يفترقان، وقد لاحَظْنا في الآوِنَة الأخيرة توجُّهَ الكثير إلى تأسيس القنوات الفضائيَّة، وهي تجربة جديدةٌ في العمل الدَّعوي والاجتماعي، والزَّمن وَحْدَه كافٍ لِصَقْل هذه التَّجربة وتصفيتها.. الأهَمُّ من وجهة نظري هو في تأسيس مؤسسات الإنتاج الإعلامي التي تخدم القنوات الفضائيَّة بشكل عامٍّ والقنوات الإسلاميَّة بشكل خاصٍّ، فتأسيس القناة الفضائيَّة الإسلامية ليس نهاية الطَّريق، بل هو الخطوة الأولى لاستقطاب الجماهير التي تقارن إنتاج قنواتنا الفضائيَّة بالقنوات الأخرى الموجودة في الساحة الإعلامية.
التطوير الإداريُّ: التدريب ليس الحلَّ السِّحري لكل مشكلاتنا الإداريَّة، لكنه وسيلة فاعلة لتغيير قناعات القيادات، ولتنمية مهارات الأفراد، والأهمُّ منه هو تكوين الثقافة الإداريَّة على مستوى الأفراد والقيادات، وتَهْيئةُ بيئة العمل الصِّحية من خلال اللوائح والنُّظُم الفاعلة في الميدان، لا المرصوصة في الأدراج.
العالم الافتراضي: الشبكة العنكبوتيَّة أوجدتْ تعريفًا آخر للحياة الاجتماعيَّة؛ حيث جَمعت العالَم في آلةٍ صغيرة بحجم كفِّ اليد يحملها الشخص في جيبه، وأوجدت داخل هذا العالَم الافتراضيِّ الجامعات والمكتبات، والأسواقَ والشبكات الاجتماعيَّة المتنوِّعة، وآليَّات التفاعل مع هذا العالم في تطوُّر مستمرٍّ، ونحن - شِئْنا أم أبَيْنا - لا بدَّ أن نتعامل مع المجتمع على ضوء هذه التغييرات.
التقنية: وسائل الاتِّصال والتقنية تتطوَّر بشكل يُصعِّب على العاملين متابعتَها، وإدراك كيفيَّة استثمارها، والحلُّ من وجهة نظري يكمُن في تغيير فلسفة العمل لدى مؤسَّساتنا الخيرية بحيث تدخل التقنية كجزءٍ أساس في خطط وإستراتيجيات وهياكل هذه المؤسَّسات، حينَها سنُلاحظ إقامة المؤتَمرات واللِّقاءات، والمسابقات، والمنتديات، والمقالات، والدِّراسات التي تبحث مدى الاستفادة من وسائل الاتِّصال والتقنية، وستدرج الأقسام التقنية في هياكل مؤسَّساتنا، وستستقطب الكفاءات لاستثمارها في هذا المَجال، إذا نَجَحْنا في هذه النقلة فسيأتي اليوم الذي نستبدل فيه التسجيلات الإسلاميَّة براديو الستالايت، وتلفازَ الإنترنت، ونستبدل التوجيهات والإعلانات الورقيَّة في المساجد بشاشاتِ LCD مُحَوسبةً تديرها مكاتب الدَّعوة بشكل مركزي، وسنُرجِع دورَ المسجد في التأثير على أهل الحي، وستكون للجهات الخيريَّة شبكة من المتطوِّعين في شتَّى الْمجالات والتخصُّصات، والتي تخدم المجتمع في أيِّ مكان كانتْ.
الكفاءة الإستراتيجيَّة: إذا كثُر الباعة، وتنوَّعَت البضاعة سيلجأ الجمهور إلى الاختيار، وهنا يبقى الأقوى، والقوة لا ترتبط بالحجم على كلِّ حال - وإن أريدَ لَها ذلك - ونظرًا إلى كبر التحدِّي وكثرة المعوِّقات، وقلَّة الموارد كان لا بدَّ للعاملين من التركيز على فئاتٍ ومؤسَّسات وبرامج محدَّدة، تراهن عليها في المرحلة القادمة.
وفي نظري فإنَّ أهمَّ فئة يمكن الاستثمار فيها هي: النِّساء، والشَّباب "ذكورًا وإناثًا"، وأهمُّ مَجال يُمكن العمل من خلاله في المرحلة القادمة: الإعلام والترويح والسِّياحة، وأهم مُحتوى يجب تقديمه هو: الوعظ والرَّقائق - وهذا بطبيعة الحال لا يعني إهْمالَ الفئات أو المجالات أو المواضيع الأخرى - أما المؤسَّسات فيرتبط اختيارها بِمَدى قدرتها على تحقيق أهدافنا..
ثُمَّ إن اهتمامنا بِهذه الفئات والمجالات لا يحقِّق لنا الكفاءة الإستراتيجيَّة إلا إذا تَميَّزْنا ببرامِجنا وما نقدِّمه للجمهور، ونجحنا في تقديم مادَّةٍ يحتاجها الجمهور ويبحثون عنها، ولا يجدونها عند غيرنا.
ويبقى السؤال المهم:
هل ستغفو الصحوة؟!
والذي أرجو إن شاء الله أنَّ الصحوة - وإن غفَتْ قليلاً - على أبواب صحوة جديدة ستعيدها يافعة، وسيعاني فرسانُها الجدد معوِّقات الانطلاق؛ مِن ضعف الموارد الماليَّة والبشريَّة، وكثرة التحدِّيات والمعوقات، ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 21].
=========
*نشر المقال في مجلة البيان وفي موقع الألوكة.
الإحالات:
[1] الخزامي، عبدالحكيم أحمد (2000م)، "أسُس بناء المنظَّمة الذكية المعاصرة"، بيروت: دار الكتب العلمية.
[2] أخرجه أبو داود في "سننه" (4291) من حديث أبي هريرة.
[3] كنتُ قد كتبتُ مقالاً في هذا الموضوع نُشِر في مجلَّة البيان بعنوان: "نحو تدريس فعَّال.. نظرة إلى معاهدنا العلمية"، فليُراجَع هناك.. وهو منشور في مدونة الباقي.
[4] يراجع سلسلة مقالات : الدوائر الأربع للعمل التطوُّعي، في مدوَّنة الباقي الإلكترونية.
ليست هناك تعليقات:
أسعد بمشاركتك برأي أو سؤال