إذا أردت أن تبني تشريعاً لحوكمة قطاع ما فأول ما يتبادر إلى ذهنك صاحب المصلحة الرئيس الذي ستبني نظام الحوكمة للحفاظ على مصلحته وتقديمها على أي شيء آخر، وهذا ما أعني به هنا (محور تركيز الحوكمة) حيث سأحاول الإجابة على السؤال التالي: من هو صاحب المصلحة الأول في الوقف الذي يجب أن تبنى أنظمة الحوكمة لرعاية مصلحته بالدرجة الأولى؟
بما أن الحوكمة بدأت في القطاع التجاري وترسخت قواعدها هناك فلابد أن نبحث عن صاحب المصلحة المدلّل لهذا القطاع؛ في البداية كنت أعتقد أن الحوكمة في القطاع التجاري جاءت لرعاية مصالح المساهمين وحفظ حقوقهم قبل أي شيء آخر، لكن عندما رجعت إلى ممارسات الدول للحوكمة وجدت أني لا أستطيع تعميم هذه الفكرة على جميع دول العالم فلكل بلدٍ تاريخه وخصوصيته.
سأحاول في هذه المقالة الإشارة إلى مرتكزات حوكمة الشركات في أبرز دول العالم ثم مناقشة مرتكز الحوكمة في الوقف [1]:
نموذج الحوكمة الغربي:
محور تركيز النموذجي الأمريكي والبريطاني للحوكمة هو (المساهم) مع اختلاف يسير في تقنين الحوكمة لدى البلدين حيث يعتمد النموذج الأمريكي على تمرير قوانين تفصيلية عن طريق الهيئات التشريعية في حين يعتمد النموذج البريطاني على آليات السوق لتحديد معايير الحوكمة، فالشركات المتداولة في المملكة المتحدة ليست مطالبة قانونياً باعتماد معايير مدوَّنة الحوكمة المعتمدة، وبدلاً من ذلك تُلزِم بورصة لندن الشركات بالامتثال أو التوضيح .
يعتبر النموذج الغربي (الأمريكي تحديداً) هو النموذج السائد الذي تتجه له حوكمة الشركات في العالم نظراً لأن الولايات المتحدة تمتلك أكبر أسواق رأس المال في العالم وأكثرها سيولة، وأكبرها تداولاً.
نموذج الحوكمة الألماني:
ينص قانون الشركات الألماني على وجود مجلس إشرافي هو المسؤول عن تعيين أعضاء مجلس الإدارة واعتماد القوائم المالية واتخاذ القرارات الاستثمارية الكبيرة يشارك في هذا المجلس ممثلين عن البنوك، وبموجب نظام حوكمة الشركات الألماني يجب أن يكون للموظفين تمثيل في المجلس الإشرافي لا يقل عن ثلث المقاعد للشركات التي لديها (500 موظف) ولا يقل عن نصف المقاعد للشركات التي لديها (2000) موظف.
وعليه نستطيع أن نقول إن نموذج الحوكمة الألماني يولي الحفاظ على الوظائف التركيز الأكبر، في حين أن تأثير المساهمين فيها أقل بكثير بسبب أن النموذج الألماني لحوكمة الشركات هو امتداد تاريخي لحقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي اعتمدت فيها الشركات على التمويل من البنوك بدلاً من الأسواق العالمية، وفي مقابل ذلك تحصل البنوك على حصص من ملكية الشركات كضمان للقروض.
نموذج الحوكمة الياباني:
وكما هو الحال في ألمانيا فإن نموذج الحوكمة الياباني له جذور تعود إلى فترة إعادة البناء بعد الحرب العالمية الثانية والتي حظر فيها الحلفاء “زيبتسو” اليابانية وهي تكتلات صناعية ومالية قوية كانت تمثل جزءاً كبيراً من قوة الاقتصاد الياباني، واستبدلها اليابانيون بنظام “كيريتسو” والذي بموجبه تحتفظ الشركات بمراكز ملكية صغيرة تشجع الشركات على العمل معا، وكما حدث في ألمانيا أصبحت البنوك هي الشريك الرئيس في كيريتسو.
محور الثقافة في اليابان أصحاب المصلحة وإسهام الشركات في ازدهار الأمة، وأحد أهم أهداف الإدارة اليابانية هو تشجيع نجاح سلسلة التوريد بأكملها بما فيهم الشركاء الصناعيون والماليون إضافة إلى الحفاظ على فرص العمل ومستوى الأجور المناسب، وعلى عكس الأنماط الغربية الرأسمالية يشجع النظام الياباني الرؤية بعيدة المدى ويبني التزاما داخلياً لتحقيق النجاح التنظيمي (مشاركة فوائد النجاح بين أصحاب المصلحة بعدل).
لدى الشركات اليابانية القليل من أعضاء مجلس الإدارة المستقلين فمثلا لدى تويوتا مجلس مكون من 30 عضوا كلهم من التنفيذيين من داخل الشركة، وتبرر تويوتا ذلك بأن هؤلاء الأعضاء يدركون جيداً جوانب قوة تويوتا بما في ذلك التزامها تجاه التصنيع والتركيز على الخطوط الأمامية وحل المشكلات.
ومع أن وزارة العدل اليابانية عدلت قوانينها في عام 2002م بغية تشجيع الشركات على نموذج الحوكمة الغربي وبهدف تسهيل استقطاب رؤوس الأموال الخارجية إلا أن الشركات اليابانية مازالت تقاوم النمط الغربي الذي يقدم حقوق المساهمين على استقرار العمالة والإدارة المحافظة.
نموذج الحوكمة الصيني:
يعكس نموذج الحوكمة في الصين تحولا جزئيا من النظام الشيوعي إلى الاقتصاد الرأسمالي، حيث تمتلك الحكومة الصينية حصص ملكية كاملة أو مسيطرة في أكبر الشركات الصينية التي تصدر ثلاثة أنواع من الأسهم: أسهم غير قابلة للتداول تسيطر عليها الدولة (63%)، وأسهم قابلة للتداول المحلي (21.5%) والأجنبي (15.5%)، وللحكومة تأثير كبير على الشركات المتداولة، وفي أحيان كثيرة تمتلك حصة الأغلبية فيها.
ومع أن الشركات ملزمة بوجود مجلس إشرافي يخصص ثلث مقاعده لممثلي الموظفين إلا أن التأثير الكبير هو للمساهم الأكبر المتمثل في الحكومة الصينية.
محور تركيز حوكمة الجمعيات الخيرية:
تدير الجمعيات الخيرية أموالاً تبرعَ بها أفرادُ المجتمع، وحوكمة الجمعيات الخيرية تُعنَى بحسن تدبير هذه الأموال وتوجيهها التوجيه الأمثل وألا تكون هذه الجمعيات أداة لغسل الأموال، وألا تنحرف الجمعية عن أهدافها لتحقيق مصالح الأفراد المتنفذين فيها، ولذا ليس من المستغرب أن تكون أولى معايير الحوكمة التي أصدتها وزارة الموارد البشرية في المملكة: معيار السلامة المالية، ومعيار الامتثال، ومعيار الشفافية والإفصاح [2]، إلا أنه ينبغي التأكيد على أن الكثير من أدبيات الحوكمة في القطاع غير الربحي ركزت على تحقيق أهداف الكيان وغايته واستدامته وحمايته من المخاطر .
وبشكل عام لا يوجد مساهمين في الجمعيات الخيرية، وإنما يطلب من أعضائها أن يسهموا في تطبيق مبادئ حوكمتها ومراقبتها.
محور تركيز حوكمة الأوقاف:
حوكمة الشركات تركز في نموذجها السائد على (مصلحة المساهم)، وفي نماذج أخرى تركز على الموظفين، وعلى أصحاب المصلحة المرتبطين بسلسة التوريد، في حين تركز حوكمة الجمعيات الخيرية على ضبط إدارة أموال التبرعات وعلى قدرة الجمعية على تحقيق أهدافها لتعزيز ثقة المتبرع بالجمعية، أما في قطاع الأوقاف فليس لدينا مساهم ولا متبرع ولكن منشأ الوقف هو الواقف الذي أخرج المال من ذمته بشروطٍ حدَّدها في وثيقة الوقف، ومن خلالها نعرف مراده ومصارف الوقف ومواصفات النظار وصلاحياتهم؛ هذه الشروط ينبغي أن تكون هي مدار حوكمة الوقف في كل حين، ويجب على أي تشريع لحوكمة الأوقاف أن يركز عليها لضمان استمرار سنة الوقف، فالواقف إنما يتشجع للوقف إذا علم أنّ وقفه سيستمر في تحقيق أهدافه التي أوقف المال من أجلها ووفقاً لشروطه التي حددها.
إن تركيز الحوكمة على شرط الواقف لا يعني إهمال مبادئ الحوكمة التي سبق أن أوضحناها في مقال سابق، وإنما المقصود أن تسعى التشريعات من خلال هذه المبادئ إلى تحقيق الناظر لشرط الواقف بالدرجة الأولى.
======
[*] نشر المقال في مركز المعرفة، شركة استثمار المستقبل، بتاريخ 7/9/2021م.
[1] مسائل في حوكمة الشركات؛ ديفيد لاركر ، بريان تيان، وينظر أيضاً مقال: (تجارب الدول في إرساء مبادئ الحوكمة للحد من الفساد المالي والإداري: قراءة تحليلية) حكيمة بوسلمة ، نجوى عبد الصمد. المجلة الجزائرية للتنمية الاقتصادية.
[2] منصة مكين وينظر أيضاً: مفوضية المؤسسات الخيرية في إنجلترا وويلز ، وسياسات الحوكمة للمجلس الوطني للمنظمات غير الربحية في أمريكا.
ليست هناك تعليقات:
أسعد بمشاركتك برأي أو سؤال