مساحة اعلانية

موضوع عشوائي

آخر المواضيع

نقد المنهج العلمي المعاصر في ضوء أصوله (*)

التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية ((5))


مفهوم العلم والمنهج العلمي
المفهوم العام للعلم عند المسلمين:
العلم في اللغة: نقيض الجهل كما ذكره ابن منظور في لسان العرب، ويقال إن العلم هو المعرفة مع أن هناك فرق بينهما فالمعرفة تكون بعد جهل أما العلم فلا يشترط أن يكون مسبوقاً بجهل.
وفي الاصطلاح:
يقول الجرجاني: هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع. وأضاف: قيل هو وصول النفس إلى معنى الشيء.أهـ.
فمعنى الشيء موجود أصلاً والعلم هو الوصول إليه. والتعليم هو تنبيه الإنسان بأصول المعاني.
الأصفهاني عرّف العلم بأنه: (إدراك الشيء بحقيقته)، فهو إدراك واستيعاب ومعرفة. ومن علماء الإسلام من يربط بين العلم وغايته، وغايته الأساسية العمل به، كما قال أبوحنيفة: (ما العلم إلا للعمل به، والعمل به ترك العاجل للآجل).

هذا هو المفهوم العام للعلم عند المسلمين، ونلاحظ أنه يتضمن العناصر التالية:
1)السعي الجاد للوصول إلى المعرفة.
2)الهدف من هذا السعي هو العمل بمقتضى العلم.

تعريف العلم عند الغربيين:
من تعريفاتهم: (العلم هو المعرفة المصنفة التي تم التوصل إليها باتباع قواعد المنهج العلمي الصحيح مُصاغةً في قوانين عامة للظواهر الفردية المتفرقة) وهذا منهج معترف به عند المسلمين في العلوم الطبيعية ، لكنه لا يطّرد في جميع العلوم.
أما المنهج العلمي فيعرِّفه قاموس وبسنـز بأنه (منهج للبحث يتمثل في تحديد المشكلة وجمع البيانات ووضع الفروض والتحقق الإمبريقي Empirical من صحتها) ومعنى الإمبريقي: أي الحسي التجريبي(**).

والمشكلة في هذا المفهوم أن العلم أصبح عندهم مقتصراً على دراسة ما يُعرف بالواقع المحسوس أو الواقع الإمبريقي، أي الظواهر التي يمكن مشاهدتها بالحواس، وهذا يعني أن موضوعات الدراسة التي تخرج عن نطاق المشاهدة الحسية كالقيم والغيبيات مُستَبعَدة تماماً عند علماء العصر الحديث من نطاق الدراسة (العلمية)، أما بالنسبة لمناهج البحث ومصادر المعرفة فإننا نجد أنه قد تم استبعاد الوحي استبعاداً تاماً كمصدر للمعرفة.
ولنا أن نتساءل عن الأسباب والظروف التي أدت إلى صياغة هذا المفهوم عند الغرب، وهو ماسيتطرق إليه المبحث التالي.

الأصول التاريخية والثقافية للمنهج العلمي
في مقال حول (تاريخ العلم) أوردت دائرة المعارف البريطانية مقالاً لجيروم رافيتز جاء فيه:(إن مؤرخي العلم كانوا حتى وقت قريب ينظرون لتاريخ العلم على أنه سلسلة متراكمة من الانتصارات العظيمة التي حققتها المعرفة ضد الجهل ) ثم يعود بعد ذلك ليقرر أنهم الآن يعيدون النظر في هذا التصور في ضوء ما تكشف لهم أخيراً من (أن العلم يواجه مشكلات أخلاقية "أدبية" في داخله) ويشير إلى أن مؤرخ العلم سرعان ما يتبين له أن فكرة (العلم) بالصورة التي تعلمها خلال دراسته ليست إلا واحدة فقط من بين عدد من (التصورات الممكنة) للعلم وأن هذه الصورة ليست إلا نتاجاً لظروف مؤقتة..
وينتهي إلى القول بأننا ينبغي أن ننظر إلى علمنا (الحديث) على أنه أحد مراحل عملية مستمرة من التطور.

وسنحاول في هذا المبحث تتبع من كتبوا من العلماء الذين ينتمون إلى الحضارة الغربية حول (تاريخ العلم) والتحولات والمراحل التي مر بها منذ كان جنيناً في رحم الفلسفة إلى أن وصل إلى صورته الحالية، مبينين الظروف التي أحاطت بتلك التحولات.. حتى يتبين للباحث المسلم حقيقة المنهج العلمي المعاصر وأنه ليس بذلك المنتج النهائي الذي لا يحتمل التعديل ولا يخضع للنقد، بل يتضح أنه إسهام بشري يسوغ لنا الاستفادة من جوانب القوة والصواب فيه، مع نقد وإصلاح جوانب الضعف والخطأ فيه.

(تاريخ العلم الأوربي) بأقلام علماء الغرب

العصور الوسطى:
(من القرن الرابع الميلادي إلى القرن الرابع عشر الميلادي):
ونقسمها إلى قسمين:
1- العصور المظلِمة (4ق م-10ق م):
لايوجد تراث علمي يستحق الذكر وكانت هذه الفترة خلواً من كل علم وفكر.
2- العصر المدرسي (12ق م-14ق م) :
بدأ شيء من النهوض يرجع إلى الاحتكاك بالحضارة الإسلامية في أسبانيا وفلسطين، ولقد وافق عصور ازدهار الإسلام عصر انحطاط الثقافة الأوربية الغربية، ولم يبدأ القرن العاشر الميلادي إلا واللغة العربية هي لغة العلماء في فارس وأسبانيا..
وفي القرن الثاني عشر الميلادي بدأ برنامج كبير للترجمة من العربية إلى اللاتينية بدأ بكتب التنجيم والسحر ثم بكتب الطب وأخيراً بكتب الفلسفة والعلم. وقد أوجد ذلك (انفجاراً في المعرفة) في غرب أوربا .. ظهر فيها اصطلاح (العلوم التجريبية) وبدأ الاهتمام بالمنهج العلمي والملاحظة وإجراء التجارب..وبصفة عامة يمكن القول بأن فلسفة العصور الوسطى قد استمر توجهها دينياً..

عصر النهضة الأوربية (15ق م-17ق م):
تميز هذا العصر بما يلي:
  1. ثورة علمية كبرى في مختلف ميادين العلم على أيدي أمثال: دافنشي وجاليليو وغيرهما..
  2. ثورة موازية في مناهج البحث العلمي والفلسفي على أيدي أمثال: فرانسس بيكون ، وديكارت.
  3. بداية الصراع العنيف بين الكنيسة - كمؤسسة لها سيطرتها الدينية والسياسية - وبين العلماء الذين توصلوا إلى نتائج مبنية على ملاحظاتهم الحسية وتجاربهم العملية ، وقامت الكنيسة بمعاقبة أولئك العلماء بشدة وعنف وأقامت محاكم التفتيش للتنكيل بهم.
  4. اتسم الفكر في هذه الفترة بنـزعة معادية للسلطة الدينية، واتسم برغبة جامحة في الخلاص من الخضوع للقيادة الفكرية والعلمية لتلك السلطة الدينية.
  5. نتيجة لذلك بدأ التركيز على (الخبرة) الإنسانية واستخدام (الحواس) كأساس للمعرفة العلمية الحقة! لأن الحواس ليست حكراً على رجال الدين بل هي ملك للجميع، والاعتماد عليها يحرر الناس ويعطيهم قيمتهم من جهة كما يقلل من قيمة المصادر الإلهية والتفسيرات الدينية من جهة أخرى.
  6. أعلن عصر النهضة التمرد على حكم الدين فكانت (الثورة ضد الكنيسة) وأصبح العلماء ينظرون للطبيعة نظرة خالية من أي خصائص روحية ولم ينته هذا القرن إلا والبيئة الثقافية – بما فيها العلم - تتجه نحو (العلمانية الكاملة)
  7. عصر النهضة وضع حجر الأساس لمعرفة علمية مبنية على مشاهدات الحواس (في إطار النـزعة الحسية الإمبريقية) وعلى عمل العقل (في إطار النـزعة العقلانية).
  8. استفاد العلماء في هذا العصر من نتاج الحضارة الإسلامية التي استخدمت الملاحظة واالتجريب والعقل والمنطق في الوصول إلى الحقيقة ، وذلك في الدراسات المتصلة بالعلوم الطبيعية.
ومن أعلام هذه الفترة:

فرانسيس بيكون
(أبو الاتجاه الحسي):
له دور بارز في توجيه العلم في اتجاه الاقتصار على الخبرة الحسية، وقد أصر على اعتبار الخبرة المستمدة من المشاهد الحسية هي المصدر الصحيح (الوحيد) للمعرفة.




رينيه ديكارت (أبو الاتجاه العقلاني):
يرى أن العلوم الطبيعية ينبغي أن تؤسس على معيار اليقين المطلق وأن المعايير النهائية لصدق الأفكار وصحتها هي الوضوح والدقة وامتناع التناقض.. وأن العقل البشري (فقط) هو الذي يستطيع الحكم على العلم بالصدق.
وهذان الاتجاهان يمثلان قطبان متضادان، مع أنه لا يوجد ما يدعو لهذا الصراع لأن المنهج العلمي يتضمن بالضرورة بعداً حسياً إمبريقياً، وبعداً رياضياً عقلانياً.



عصر التنوير (18ق م):
  • أدخل هذا العصر العلمَ في مجال السياسة ، وتمثلت رسالته في النضال ضد سلطة الكنيسة وعقائدها الجامدة، وعلى اختلاف اتجاهاته إلا أن العلماء اتفقوا على أن عدوهم الأول هو الكنيسة.
  • واحتدم الصراع في أوساط العلماء بين الحسيين الإمبريقيين من جانب والعقلانيين من جانب آخر..
  • وحاول (نويل كانط) التوفيق بين الاتجاهين الحسي والعقلاني وقرّر أن المعرفة بالعالم (الطبيعي) من حولنا تكون ممكنة عندما يصل العالِم إلى نسق عقلي متماسك من التفسيرات التي تطابق الواقع الإمبريقي.
العصر الذهبي (19ق م):
  • ازدادت قوة العلماء بمقابل سلطة الكنيسة، وازداد استخدام الحقائق العلمية ومنهج البحث العلمي..
  • نادى الفيلسوف الفرنسي (أوجيست كونت) بتطبيق نفس قواعد المنهج العلمي المستخدم في العلوم الطبيعية في دراسة الظواهر الاجتماعية، ونادى بما أسماه (الفلسفة الوضعية) التي كان من نتاجها الفكري مايلي:
  1. أنكرت أي نوع من المعرفة لم يتم التوصل إليه بالمناهج العلمية المقبولة.
  2. ترفض التفكير بما وراء الطبيعة والبصيرة الحدسية والتحليل المنطقي المجرد باعتبارها تخرج عن نطاق المعرفة الحقة.
  3. تنظر إلى مناهج العلوم الطبيعية أنها الوسيلة الدقيقة الوحيدة للحصول على المعرفة، ومن هنا فعلى العلوم الاجتماعية أن تسير بنفس المنهج.
  • أعلن (كونت) عن ما أسماه (قانون الحالات الثلاث) التي زعم أن تطور الفكر البشري يمر بها والتي تتوازى على حد زعمه مع المراحل التي يمر بها الإنسان من الطفولة إلى النضج، وهي:
  1. المرحلة الدينية التي تفسَّر الظواهر فيها بإرجاعها إلى قوى قدسية، وتمثل عنده مرحلة الطفولة في الفكر البشري.
  2. المرحلة الميتافيزيقية التي لا تخرج عن كونها دينية ولكن بنظرة غير شخصية..
  3. المرحلة الوضعية أو العلمية التي لا تهتم إلا بالحقائق الإيجابية من حيث وجودها في الواقع الملموس.
  • الأثر الدائم الذي تركه كونت يتمثل في أنه قد أنشأ توجهاً مضاداً للدين ولِما وراء الوجود في فلسفة العلوم استمر حتى العصر الحاضر.
القرن العشرين:
ظهر مايسمى بالوضعية المنطقية ، ثم تحولت إلى (الأمبريقية المنطقية)..

الوضعية المنطقية:
بُنيت على توجهات إمبريقية متطرفة والتي من أهم أفكارها: أنَّ أي عبارة لا يمكن التحقق من صدقها بالرجوع إلى الخبرة الحسية كالعبارات الدينية أو المتصلة بما وراء الطبيعة كالعبارات المتصلة بالقيم الأخلاقية أو الجمالية فإنها (لا معنى لها)..ويلاحظ على هذا المفهوم أنه بالغ بشدة في التأكيد على الحقائق الإيجابية للملاحظة حتى أنه اتخذ اتجاهاً معادياً لفرض وجود (الذرة) في علم الطبيعة على أساس انه لم يكن من الممكن مشاهدتها بالحواس في ذلك الوقت.

الأمبريقية المنطقية:
هذا المفهوم احتفظ من الوضعية بإصرارها على اختبار الفروض والنظريات في الواقع الإمبريقي ومن هنا جاءت تسمية (إمبريقية) ، واستخدم تسمية (المنطقية) للدلالة على مكانة المنطق والرياضيات التي يتوقف صدق قضاياها على صحة المسلمات والتعريفات، و”الأمبريقية المنطقية” تُمثل النموذج السائد اليوم في فلسفة العلوم بصفة عامة، وأفكارها الأساسية:
  • كل كلام (ذي معنى) يتكون إما من:
  1. عبارات (صورية) منطقية أو رياضية.
  2. أو قضايا تشير إلى حقائق علمية (واقعية) .
  • أي قضايا تزعم أنها تشير إلى حقائق لا يكون لها معنىً إلا إذا أمكن التحقق منها بالرجوع إلى الواقع المحسوس.
  • أي قضايا تتصل بما وراء الوجود ولا تقع في نطاق الفئتين المذكورتين أعلاه لا معنى لها.
  • جميع العبارات المتصلة بالقيم الأخلاقية أو الجمالية أو الدينية لا يمكن التحقق منها علمياً وهي بهذا لا معنى لها.
هذا هو النموذج السائد في فلسفة العلم اليوم ، وتلك هي الظروف التي وصل إلينا من خلالها.

==============
(*) هذا الموضوع ملخص من كتاب (التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية) د.إبراهيم عبدالرحمن رجب. (57-73)
(**) في تعريف المصطلحات يستفيد الباحث من كتاب (المعجم الفلسفي) لعبدالمنعم الحنفي وهو يتناول الألفاظ ويشرحها، وكتاب (معجم العلوم الاجتماعية) لأحمد زكي بدوي وهو يعطي تعريفات للمصطلحات، وكتاب (قاموس التربية) لمحمد علي الخولي. –د.عبدالعزيز المحيميد-

الكــاتــب

ليست هناك تعليقات:

أسعد بمشاركتك برأي أو سؤال

جميع الحقوق محفوظة لــ مدونة الباقي